الثلجة الكبيرة



شاءت الأقدار ان أشهد ثلجتان كبيرتان في موسم الشتاء الحالي، الاولى في فلسطين بداية كانون أول الماضي، والتي نتذكر ايامها بإنقطاع الكهرباء والماء واغلاق الشوارع وكل ما لحق ذالك من مزاودات واتهامات والقاء اللوم على كل من يمكن القاء اللوم عليهم كالبلديات والوزارات والمواطنين والجيران والقطاع الخاص وغيرهم، والثانية كانت منذ عدة ايام في مدينة فيلادلفيا عاصمة أمريكا الأولى واقدم مدن الولايات المتحدة.


ثلجتان خلال شهران في دولتين مختلفتين بالمجمل والتفصيل، او حسب التعريف الأمريكي "المناطق الفلسطينية" وليست دولة وربما من الظلم اجراء هذه المقارنة ولكن بالرغم من ذلك سوف أفعل!

سبر أغوار هاتان الثلجتان انشئ  لدي مفارقات غريبة ومقارنات غير العادلة، ولكن خلاصة التفكير المتشعب انتج لدي نتائج وفرضيات مثيرة للاهتمام والبحث، واليكم البعض اليسير من رحلة التمحيص.
اعلان الارصاد الجوية في فلسطين عن قدوم العاصفة الثلجية لم يؤخذ على محمل الجد، ربما لأننا مازلنا لا نثق تماما بمؤسساتنا لا من منطلق النقد والتجربة بل من ترسبات الصور النمطية التاريخية، أو لقناعة لدينا أن "هذا لن يحصل!"، اما في الولايات المتحدة فإن الموضوع الوحيد الشاغل لبال الاغلبية، وحديث الشارع بغض النظر عن مستوى وثقافة المتحدث هو عن الطقس وآخر التوقعات حول العاصفة الثلجية المقبلة، الجميع يتابع الاخبار حول العاصفة ويثق بما يقال ويصدقه حتى لو كان يعيش في مكان لن تصله العاصفة ابدا، ذكرني مشهد تهافت الأمريكان على السوبرماركت لشراء المونة في الليلة الاخيرة قبل العاصفة الثلجية، بإصطفافنا في المخابز والملاحم والبقالات، المدارس ايضا  اغلقت ابوابها في فيلادلفيا والاسواق لم تفتح  بعد سقوط ما لا يزيد عن 60 سنتيمترا من الثلج وانحسار الموجة الثلجية بعد يوم واحد من وصولها. وعلى غرار مناشدة البلديات والمحافظة الناس ان لا تخرج من بيوتها في فلسطين ناشد حاكم ولاية بنسلفينيا المواطنين الامريكيين عبر التلفاز ان لا يخرجوا من بيوتهم الا للأمور الطارئة، وتعطلت المواصلات والغيت آلاف الرحلات الجوية كذلك، وانقطعت الكهرباء للحظات في الفندق الذي اقيم به، وبقيت وحدي اتجول في الشوارع ابحث عن اي مطعم قريب في مدينة اشباح اتناول فيه وجبة الغذاء.

 وبالرغم من مفارقة الثلجتان، في "دولتين" متباينتين، إلا انه من المؤكد ان الثلج هو نفسه الثلج! سواء بفلسطين أو بأمريكا ولكن نحن دولة محدودة بكل شيء ونرضخ تحت احتلال مرير وهم الدولة العظمى التي تحكم العالم، فلا بد ان يكون هناك فرق! ولكني وبالحقيقة رصدت عدة فروق. 
نعم، انقطعت الكهرباء في فلسطين لبضعة ايام ولكن الكهرباء في امريكا لم تقطع الا لساعات معدودة، وهناك التزم المواطن بالتعليمات حرصا على النظام السائد، اما عندنا فقد خرج المواطنون لإكتساح الثلوج بسياراتهم الخصوصية الصغيرة ظناً من كل واحد فينا انه هو "وليس غيره" معصوم عن التزحلق وان كل من علِق في الثلج قبله فهو لا يتقن السياقة فقط !
خرج الناس في فيلادلفيا بعد اليوم الوحيد للعاصفة التي شلّت مرافق الحياة وأودت بحياة اثنان وعشرين ضحية وهم يشكرون وممتنون لمن اكتسح الثلوج ولمن أوقف الرحلات الجوية حفاظاً على السلامة العامة بالرغم من افتراش الآلاف لأرض المطارات ليومين ، أما هنا فقد اطلقنا موجة غير محدودة من المهاترات والمعاتبات السلبية التي لا ترى الا الجزء الفارغ من المعادلة، ونسينا أو تناسينا أننا حتى نحن كفلسطينيين ومع كل الاعتداد والمبالغة بتقدير الذات لا نستطيع حقا مواجهة الكوارث الطبيعة التي لا يقوى على مواجهتها أحد، حتى أقوى وأعتى دول العالم.

واعتقد جازما، ان القضية لا تتعلق بعدد الآليات أو الجرافات ولا بالكوادر الفلسطينية العاملة والتي من مشاهدتي الشخصية (وليس كخلاصة بحث علمي) تتفوق على الطواقم الامريكية بقدرتها على الانجاز وخاصة في تحمل الصعاب والعمل تحت ظروف الطبيعة القاسية. الموضوع يتعلق بالتوجهات وطريقة التفكير، ربما بعد كل هذه السنوات من الاحتلال والاحباط اعتمدنا من غير وعي او قرار نظرية ردة الفعل العشوائية في كل شيء واصبحنا "نغرق بشبر ماء"  كما يقولون! امتهنا جلد الذات في كل المواقع والحالات، واصبحت ادمغتنا لا تعتمد الا نظرية المؤامرة في كل شيء وقبل ان نقيّم اي نتائج لأي حدث نطلق الاتهامات ونركض الى المسائلة والمحاسبة الشكليّة وغير الحقيقية او الجدية عبر الاذاعات والصحافة والاعلام الاجتماعي.
ولا أقصد هنا ان نعرّض الشعب الفلسطيني بأسره لموجة ثلوج أمريكية ليتفكر في المفارقات ويعيد تقييم الواقع وأخذ الامور بحقائقها، بل علينا ان نعيد بناء منظومة التفكير لدينا، أن نعلم أبنائنا مهارات التفكير النقدي، أن ندفعهم الى البحث والتمحيص وجمع المعلومات وامتلاك المعرفة قبل الإفتاء وإتخاذ المواقف والترويج للاشاعات وتوجيه الاتهامات فقط من أجل إثبات الحضور، دون ان يكون هناك اي متابعة لمحاسبة اي مقصر حقيقي في أي قضية، تتضخم القصص في الفيسبوك وتبدأ بالوعيد والتهديد وتنتهي كفقاعة هواء حين تبدأ الفقاعة التالية وهكذا تواليك.

فالنعلم الجيل الفلسطيني القادم ان يكون ناقدا لاذعاً وغير مهادناً، ان يجري المقارنات العادلة قبل ان يضع الحلول العملية والقابلة للتنفيذ قبل اتخاذ الاجراءات ومتابعتها، والأهم من كل شيء ان نزرع الأمل ونحيي الفكر المتفائل فينا ونعزز النظرة الايجابية للأمور، والتي كانت وستبقى سر صمودنا.

م. عارف الحسيني
aref.husseini@gmail.com






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !

موضة الريادة!

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟