أما بالنسبة للإبداع .... فلا يمكن أن يبدع الخائفون




"إن الحياة تبدأ وتنتهي والقوى العظمى تعلو وتهبط لكن الأمم عبر التاريخ هي التي تصنع المستقبل...إما مستقبل مضيء أو مستقبل مظلم، الأمر يتطلب القيادة الحكيمة التي تمتلك البصيرة، حرية الفرد والإيمان مع عدم الاستخدام الخاطئ للدين، والشعوب تقرر :إما مستقبل فيه المحمول و"النيو لوك"أهم الأساسيات، أو مستقبل يكون فيه الرخاء الاقتصادي والفكري والبحث عن المعرفة هي الأساسيات"                         د. أحمد زويل / كتاب عصر العلم

حصل العالم المصري أحمد زويل على جائزة نوبل للكيمياء للعام 1999 عن أبحاثه  التي وضعت علم الفمتو ثانية بين العلوم الحديثة، هذا العلم الذي فتح المجال لمشاهدة الخلايا وهي تتكون، والروابط الجزيئية وهي تتشكل وتتفكك في زمن لم يكن ذلك معروف قبله، وها هو اليوم يعد أبحاثه باستخدام المجهر ثلاثي الأبعاد، والذي بواسطته يأمل العلماء بالتعرف على ما تبقى من أسرار الحبل الجيني.... ولعل أهم ما لفت انتباهي في د. زويل جملته  أما بالنسبة للإبداع.... فلا يمكن أن يبدع الخائفون".

والخائفون في نظري هم ليسوا أولئك المقموعين من سلطات تحكمهم فقط، بل الخوف الحقيقي هو الخوف الداخلي من الفشل أو الجوع أو الاختلاف أو الانكشاف والأدهى من ذلك هو خوف مدعي المعرفة من الجهل الذي لا يعرف عن وجوده داخله سواه.
يكابر الكثيرون من  التربويين والمثقفيين والأكاديميين ورؤساء الجمعيات وقادة المجتمع المدني وملوك الأروقة السياسية ويدعون المعارف المطلقة، بالرغم من شح الوقت لديهم للخوض بالتفاصيل المهمة، حتى لو وجد الوقت فإن "ضيق الخلق" يمنعهم، وإن وجد الوقت والخلق فإن "الأنا" العليا تتدخل لتصف البحث المتواصل عن المعرفة بالإهانة الكبرى، فتراهم يكتفون بقراءة الملخص على الغلاف الخلفي لأي كتاب، ويمرون سريعاً على الأخبار الصحفية والمجلات ليطلقوا الفتاوى وكأنهم جهابذة العصر.

وفي واقعنا الفلسطيني يتسابق الجميع إلى الإبداع والريادة، وتتهافت المؤسسات الرسمية والأهلية على قطف ثمار شجرة غير موجودة أصلاً، فالجميع يريد أن يكرم المبدعين بالجوائز أو يتبناهم على فرض أنهم ولدوا مع الموهبة وتخطوا مرحلة الفكرة وحدهم، وأنهوا فترة الكمون وحدهم، وأتوا بالحل العظيم "يوريكا" والآن هم بحاجة فقط إلى من يأخذ بأيديهم نحو تغيير حياتهم بتحويل ما توفر لديهم من مواهب بالفطرة والصدفة إلى مشروع ناجح حسب معايير المستثمر أو الممول.

كل هذا في ظل وجود نظام تعليمي مدرسي وجامعي عاجز تماماً عن إنتاج المبدعين،  ومجتمع محلي محيط لا يؤمن إلا بالمسار التقليدي في خط سير الحياة: مدرسة-توجيهي- تعليم أكاديمي- وظيفة- بناء بيت فوق دار العائلة- زواج- أولاد- تربية على نفس المسار وهكذا تواليك....  لذا نجد أغلب الإبداعات المحلية المبتدئة في العلم والتكنولوجيا تتطاير بعد انتهاء حفلة التكريم.
جميعنا يدعي أن فلذة كبده متميز ومبدع وفي رأيي الغالبية العظمى منا واهمين، ولكن ماذا بالنسبة للأقلية المبدعة حقيقةً؟ كيف نريدهم أن يصقلوا الموهبة دون وجود إطار يدعمهم داخل المدرسة التي تشغل معظم وقتهم، ومع إصرار الأهالي على أن يقوموا بكافة واجباتهم المدرسية وأن يحققوا العلامات الكاملة وأن يتفوقوا في النظام التقليدي التحصيلي والذي لا شأن له بإبداعهم؟ وبعد ذلك كله نريدهم "في حال توفر وقت وطاقة " أن يهتموا بالموهبة والإبداع، من منا يقبل عن وعي واختيار أن يكون ولده متوسط في المدرسة ولكن مبدع بالميكانيك؟ ومن يرضى أن لا تتقدم ابنته لامتحان الجغرافيا بسبب تزامن يوم الامتحان مع حفلة العزف على الكمان الذي تعشقه؟

نحن نتعامل مع موضوع رعاية الإبداع والريادة وتحويل المجتمع  إلى مجتمع معرفي يؤمن بالإنتاج وكأننا نخترع العجلة من جديد، وننسى تجارب الآخرين مثل ماري روبنسون في إيرلندا، وتجربة سنغافورة والهند ومهاتير محمد في ماليزيا، ونتمنى أن ننشر بعد عشرين سنة " تجربة فلسطين" ، دون ان نبني رؤية سيايية واقتصادية واجتماعية موحدة لذلك.
مهاتير محمد الذي حول ماليزيا من دولة عالم ثالث فقيرة إلى دولة لها وزنها في الصناعة والاقتصاد خلال أقل من عشرين سنة، أصدر رؤيته الحكيمة والتي سمّاها "ماليزيا 2020 " في ورقتين لا ثالثة لهما، بدأهما في حلم أن يولد ماليزي اليوم لا تكون ماليزيا دولة نامية عندما يكبر ، وتلى ذلك بتسع نقاط تلخص كيفية تحويل البلد إلى ما يصبو إليه، أود أن أتوقف عند النقطة السادسة وهي محور حديثنا وهي ما اختص، وأحلم به:
"التحدي هو بإنشاء مجتمع علمي قابل للنمو، مجتمع مبدع وينظر للأمام وهو ليس مستخدم فقط للتكنولوجيا، بل قادر أيضاً على المساهمة في الحضارة العلمية والتكنولوجية المستقبلية".

ولكن لا يمكن تحقيق هذه النقطة إلا ببنائها على أسس أخلاقية عامة وقيم نؤمن بها ونمارسها، أهمها الأمانة العلمية وحسن تقدير الذات. لتكون تلفظاتنا وتصريحاتنا بحجم معرفتنا الحقيقية وليست متضخمة حتى حدود الخيال العلمي.
هذا هو التحدي في فلسطين أيضاً، ومن أجل إنشاء مجتمع المعرفة المنتج،  نحن أحوج ما نكون إلى تغيير النظام التعليمي السائد ليبتعد عن التلقين والتحفيظ وينتقل إلى الفهم والتحليل لأن المعارف لم تعد حبيسة الكتب، وكل معلومة نحتاجها يمكننا أن نحصل عليها بسهولة فائقة عبر الانترنت، وفي أي مكان نكون فيه بواسطة الهواتف الذكية، ولكن يبقى السؤال المطروح هو: كيف نتعامل مع هذه المعلومة؟ وكيف نراكم كماً من المعلومات والمهارات والقدرات التحليلية التي تحقق الفهم العميق والمطلق من أجل الإبداع والإتيان بالجديد الذي ندخره كرأس مال معرفي.

في رأيي يبدأ الحل بتربية النخبة المحلية على الامتياز وليس على الكمال، ولا نقصد هنا تلك النخبة البرجوازية أو السياسية بل النخبة التي تمتلك المهارات الأساسية والموهبة الحقيقية ( والتي تعد أبرز متطلبات الحل) بغض النظر عن المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، وتبدأ مسؤوليتنا باكتشافهم منذ نعومة أظفارهم ووضعهم في إطار رسمي يحترم تفكيرهم ويلبي رغباتهم ويربيهم على خدمة الوطن وعشق ترابه من خلال الفهم لا التحفيظ، وأن نوجههم لتعلم المهارات القيادية في ميادين مختلفة حسب ميولهم وبالتنسيق مع حاجات دولتنا المستقبلية من خلال خطة دقيقة ورؤيا نافذة، وأن نمنحهم المعرفة الحقيقية بدقائق تخصصاتهم وأن نسهل طريقهم وندعمهم للالتحاق بجامعات عالمية مرموقة تصقل معارفهم، وأن نعيدهم بعدها ليلتحقوا بمؤسسات الوطن بوظائف قيادية يستحقونها بكفاءاتهم لا بالواسطة والمحسوبية، وان يحصلوا على ما يستحقون من احتياجات الحياة الكريمة حتى يتخطوا حواجز الخوف الداخلي والخارجي.

إنني أؤمن بالمرحلة التاريخية التي تمر بها مسيرة بناء دولتنا الديمقراطية المستقبلية والتي يحترم فيها بعضنا الآخر بعيداً عن القبلية والحزبية وصغائر الأمور، وهذا لا يبنى إلا بالأفراد الذين يتقاسمون الحلم، وللأسف هم ندرة نادرة في الوطن، وهم أصلاً  وإن وجدوا لا يشاركون باتخاذ القرار لأنهم ليسوا في دائرة القيادة، ربما لأننا ما زلنا نختار قياداتنا بناءً على ما فعلوه في الماضي وليس على ما يستطيعون فعله في المستقبل.
هذا البرنامج سوف نقطف ثماره بعد خمسة عشر عاماً على الاقل، عبر مسيرة تخلو من الاختصارات والقفزات عن أي مرحلة من المراحل، ولكن النتائج هي بالضرورة مضمونة. تتطلب هذه المرحلة أن نتبنى آلاف الموهوبين في أطر خاصة دون البهرجة الإعلامية، وأن نرافقهم بعلم وحذر حتى يتخطى نصفهم جميع المراحل ويعود ربعهم ليبني فلسطين الحقيقية التي نتمناها، فتخيلوا ما يمكن فعله مع ألف عالم فلسطيني في مجالات مختلفة مشبّعين بالوطنية ولا يمكن شراؤهم أو المتاجرة بمواقفهم، ويدينون بما وصلوا إليه للدولة التي صنعتهم.

بعد خمسة عشر عاماً، ربما لن نكون موجودين ولكن واجبنا التاريخي يحتم علينا أن نبذر بذور المستقبل، لقد اختار الشعب الفلسطيني طريق الاستقلال والتخلص من الاحتلال، ورفض أن يمحى أو يذوب في شعوب ودول أخرى، ولقد رفعت القيادة السياسية راية بناء المؤسسات ولا أعتقد أن هناك اثنين يعارضون المبدأ، ولكن المؤسسات تحتاج إلى البشر حتى يرفعوها، وهي ليست فقط شراء المباني وتأثيثها ونصب اليافطات على ابوابها، خاصة أن الخامة البشرية المتوفرة اليوم والتي ننتجها بنظامنا التعليمي والاجتماعي الحالي لم ولن تلبي الحاجة، ولا يمكن استيراد خامات بشرية دائمة أبداً، في هذا الوضع المتزايد في التعقيد نحتاج إلى تذويت حبنا لمن لم يولد بعد، ولا نستطيع التقدم دون الايمان واتخاذ القرار بأن هناك ناتج بشري أفضل يمكننا انتاجه لأن المؤسسة الحقيقية ترفعها العقول والأدمغة وليس الجرافات والابنية.
م. عارف الحسيني
aref.husseini@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !

موضة الريادة!

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟