حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !







بعد سنوات عديدة عملت بها في مصانع تكنولوجية ومؤسسات أكاديمية تمتهن الإنتاج العلمي والتكنولوجي المتقدم، عدت إلى فلسطين الحبيبة طوعا ولست مجبرا، يجتاحني الأمل والحب والشغف والرغبة الحقيقية في احداث تغيير، انضممت لطاقم عمل فلسطيني لإنجاح مشروع علمي وهندسي متميز، وفي جلستنا الاولى كانت المفاجأة! 

فبعد الترحيب وكلمات الاطراء والمباركة جاء وقت العمل، فسألت: من سوف ينجز العمل؟ قال رأس القوم: انا وظيفتي أن اعطي التعليمات وأشرف على التنفيذ، وأضاف المهندس الثاني: وأنا من الممكن أن افتح لكم المختبرات للعمل ولكن يجب أن يكون ذلك في  ساعات الدوام الرسمي فقط، وقال الثالث: أنا سوف أراقب العمل وفي حال تعرضتم لمشكلة اخبروني، وقال الرابع: انا مهندس ولست فنياً، إن احتجتم إلى بعض الحسابات الهندسية فسوف احاول المساعدة فيها ان كانت ضمن تخصصي وساعات عملي الرسمية.
سألت بكل سذاجة : ولكن من سوف ينفذ العمل؟ اجاب المهندس المدير انه من الممكن أن نوكل العمل لبعض الطلبة والفنيين لتنفيذه، ولكن هذه أنظمة حديثة سوف نصممها للمرة الأولى فكيف ممكن لغير المصمم أن يفهمها ويبنيها دون أخطاء، فأجابوا جميعا : ليس من اللائق أن يقوم المهندس المخضرم بالعمل التقني! واعتقد لست جازما انهم كانوا يخشون اتساخ اياديهم، او انهم يخشون ألا تنجح تصاميمهم فيكون في ذلك اهانة لهم.


امضيت الاشهر الخمس اللاحقة  انفذ اعمال التصميم والبناء للدارات والانظمة الالكترونية والهندسية وحدي، استخدم مختبري الخاص في البيت، اصمم الدارات المعقدة وابنيها بمتعة، افرح حين تعمل، أزور المنجرة والمحددة والمخرطة وأنا المهندس الوحيد الذي يعمل مع الفنيين في الكهرباء والالكترونيات الذين تعلمت منهم الكثير بحكم خبرتهم ومعرفتهم اللامحدودة بما يمكن تنفيذه وما سيبقى حبيس الخيال بسبب شح الامكانات او الخبرات او أخطاء محورية في التصميم، اما طاقم المهندسين فقد اجتمع مرة كل اسبوع لمناقشة خطط العمل واعطاء التعليمات لي ولزملائي الفنيين، والنقد لما تم انجازه وطبعا المزاودة والتباهي بإمكاناتهم الرفيعة لو انهم هم من يعمل، وفي بعض الأحيان تقديم النصائح النظرية والتي ليس بالضرورة يمكن تنفيذها عمليا!

ربما كانت هذه أول الصدمة هندسية اتعرض لها في المجتمع العلمي والهندسي الفلسطيني، أن تكون مهندسا كما عرفت واعتدت عليه سابقا هو أن تحرق يدك وانت تستخدم كاوي اللحام، أن تدمن رائحة القصدير بعد شوائه على لوحة البناء ، أن تعشق الترانزيستور وتحترف البرمجة العملية لوحدات معالجة المعلومات المركزية، وأن تجيب اصدقاءك بلغة الاسمبلي التي تتحدثها الآلات عندما يسألونك عن معضلة ما، أن تبتهج وتوزع الحلويات عندما تنجح بتشغيل اي نظام الكتروني هندسي تصممه للمرة الأولى ويحل مشكلة بطريقة ابتكرتها بنفسك، قال لي احد الاساتذة الذين علموني الحياة الهندسية يوما ما وكان يملك عدة براءات اختراع عالمية ويعمل مستشارا لأربعة شركات تكنولوجيا عالية المستوى : " لن تصبح مهندسا ان لم تحرق يدك، كما الطبيب الجراح، لن يصبح جراحا حقيقيا قبل أن يمسك المشرط، لا يولد المهندس مستشارا وفي أغلب الاحيان يقضي عمره يتعلم حتى يصبح كذلك". 

رافقني هذا القول ولم افهمه حتى بدأت تجربتي بالعمل مع مهندسي بلادنا، وايقنت بعد التجربة اننا نعلم مهندسينا شيئا في كل شيء ولا نعلمهم كل شيء في شيء واحد، فيصبحوا منظرين أكثر منهم مصممين ومنفذين، اما على المستوى المجتمعي فإن البعض يقبل للهندسة ليس لأنه يمتلك الشغف اللازم للنجاح بل لأن علاماته في امتحان الثانوية العامة والتي حصل عليها بناءً على حفظه لكتب التوجيهي من "الجلدة للجلدة" تؤهله لتعلم الهندسة ليس إلا. وكيف له أن يلتحق بكلية التجارة أو الآداب التي يعشقها وهو حاصل على علامات تصنفه بالأحرف التي تسبق اسمه لاحقا؟

اكتشفت اننا بالغالب نعلم الهندسة ليحصل الخريج على اللقب ويضاف حرف الميم مع النقطة الى اسمه كما حرف الدال للاطباء، ولكن عن ممارسة الحياة الهندسية والعلمية والعيش بها حتى تصبح نهج حياة، فهذا تحدي وامل وحلم يجب ان نستثمر كل ما يمكننا لتحقيقه.
وبعد تجارب عديدة لتبني مهندسين قبل تخرجهم او حديثي التخرج ليحصلوا على فرصة لممارسة الهندسة المنتجة، عمل مؤخرا في مختبري الخاص طالبان مبدعان، لهما امكانات يمكن تطويرها والبناء عليها ليتخطوا حاجز الالقاب، وبعد الاستثمار المادي والمعنوي والمهني بهما، قرر الاول ان يعمل بعد التخرج والحصول على حرف الميم قبل اسمه الاول في دكان لبيع الملابس الجاهزة والذي يملكه والده، واختفى الثاني عن الانظار بعد ان حصل منا على شهادة خبرة تؤهله للحصول على وظيفة مثل تلك التي يشغرها المهندسون الذين عملت معهم آنفاًفي هذه البلد.

ربما حان الوقت لنلتفت الى بناء الكوادر العلمية والهندسية المتواضعة، ان نساعدهم على امتلاك المعرفة الحقيقية، ان نفهم نحن ونساعد الجيل الهندسي القادم على الفهم والايقان ان العلم والهندسة هي عوالم لا يمكن ان نأمن جانبها، فهي ديناميكية تتغير بسرعة كبيرة وعلينا مواصلة مسيرة التعلم حتى نتمكن من اللحاق بالركب، ان الالقاب ليست هي من تصنع المعرفة ولا الثروة، والاهم من كل ذلك ان نتواضع حتى نرتقي فمن لم يحرق كلتا يديه وهو يبني الدارات الالكترونية، في رأيي لن يصبح جديرا بلقب المهندس ابدا ولن يستطيع ان ينصح احد بشيء هو نفسه لا يمتلكه.

تعليقات

  1. كلام سليم... وينطبق حرف الميم هذا على بعض "محامي" البلد...

    ردحذف
  2. للأسف هذا ما حصل معي في التعليم ايضا ويبدو ان هذا حال بلادنا مع الوظائف نحن لا نزرع فيهم حب وشغف للعلم و العمل مهما كان التخصص الذي سيكون عليه ، انما نصب طاقتنا على حشو العقول بكم هائل للمعلومات لتتبخر حال انتهائنا من الامتحانات والمهم الوصول الى وظيفة تؤمن دخل مادي ثابت نحافظ فيها على اناقتنا ناهيك عن تدخل فيتامين واو في الحصول على العمل وبذلك وجود غير الاكفاء في العمل

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

موضة الريادة!

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟