الاختباء خلف شاشات مضيئة ... الفيسبوك بين الاهالي والابناء


بدء التفاوض بيني وبين ابنتي حول امكانية ان يكون لها حساب على الفيسبوك منذ عام واحد تقريبا، ذلك بعد احتفالنا بعيد ميلادها الثامن فقط، وتركزت مطالبها بشرعية ان يكون لها حساب كباقي الزملاء في المدرسة، وكلما نجحت بإقناعها انه لا حاجة لحساب الفيسبوك الآن، وان البريد الالكتروني واستخدام برامج المحادثة مثل السكايب للتواصل مع الاصدقاء في الصف يكفوا الآن بالغرض، لكنها تعود بعد لحظات من نقاش طويل لتقول: "يعني راح تسمحلي بفيسبوك بس يصير عمري تسع سنين؟".

أذكر ان مفاوضاتنا أيام الطفولة للحصول على الاشياء من الأهل كان بالأغلب حول رحلة نخرجها أو لعبة نمسكها بأيدينا ولكن سخرية القدر والتكنولوجيا جعلت من انشاء حساب على موقع التواصل الاجتماعي مطلب ملّح لأبناء الجيل الحالي وربما القادم.
ان انشاء حساب الفيسبوك غير مكلف مادياً، واعتقد ان معظم الاهالي لا يجدون ضير في ان يكون لابنائهم وبناتهم حسابات عليه، واكاد اجزم اني ايضا لن يكون لدي خيار في القريب العاجل غير الموافقة على حساب الفيسبوك لإبنتي ولن أتمكن من مقاومة هذا التيار الجارف، واني اعلم جيدا ان محاولاتي الدائمة لتشتيت الاهتمام بالعالم الافتراضي هي فقط لتأجيل الحدث وليس لمنع حدوثه، وذلك من وجهة نظري لتقليل ضياع الوقت في الثرثرة ومراقبة الناس وللحد من التأثيرات نفسية على الاطفال والمراهقين بسبب ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي من منصات افتراضية لإنشاء العلاقات غير المتينة او الحصينة.
لعل اخطر الظواهر الاجتماعية التي جاءت فيها مواقع التواصل الاجتماعي والتي تستهدف وتهدد الجيل اليافع والمراهقين في بلادنا هي ظاهرة الاختباء خلف الشاشات وفقدان القدرة على المواجهة واعتقد ان هذه الظاهرة تتفشى بين الفتيان والفتيات اكثر من غيرهم، كل واحد يجلس خلف شاشة حاسوبه ينشر ما يشاء من الصور ويكتب ما يشاء من النصوص ويعرض ما يريد على من يريد دون الاخذ بعين الاعتبار بنية المجتمع وعاداته، ودون الالتزام بمنظومة الاخلاق التي مازلنا كأهالي نعتقد انها موجودة ومتينة، وأن كل ما يقال عبر الفيسبوك او غيره برسائل خاصة او عامة هو افتراضي ولا حساب عليه. 
تنشأ العلاقات العاطفية بين المراهقين والمراهقات بعد بضع المحادثات المكتوبة عبر الفيسبوك مثلا، وتتقدم لتصبح محادثات بالفيديو ويقال فيها ما لا يقال بالعادة ويمارس فيها ما هو غير مقبول مجتمعيا او دينيا، فهل فكر احدنا بالتأثيرات والتبعات النفسية والجسدية التي ممكن ان تترسب لدى اليافعين في جيل المراهقة الحساس اصلا إثر ذلك؟
اما على صعيد الفتيات وفي ظل المجتمع المحافظ والمتدين بشكل عام، ومع منظومة التقاليد التي تضع القيود الكثيرة على التواصل غير الافتراضي، ومع ثورة الاعلام المرئي عبر الفضائيات وما تعرضه من برامج وافلام ومسلسلات بعيدة في افكارها وممارساتها للعلاقات الاجتماعية والعاطفية عمّا يسمح به المجتمع المحلي، اصبح الفيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي مكان مختلف للقاء، يسمح بإدخال القصص والمغامرات الى عقر الدار والى الغرف المغلقة دون استإذان او طلب السماح من المجتمع الابوي الذكوري، نحن نخدع انفسنا ان كنا نعتقد ان بإمكان الاهالي المراقبة او السيطرة، ولا اعتقد ان بإمكان أحد ان يقيد تكنولوجيا الاتصال المتسارعة.
 في الواقع الحالي اصبح الفتيان المراهقين اكثر جبنا في التواصل الطبيعي والنقي مع بنات جيليهم ولا تبادر الاغلبية الى انشاء العلاقات المحترمة والمتوازنة مع الجنس الآخر، بل يفضّلون تمضية ساعات طويلة في المهاترات والمراقبات عبر الفيسبوك وغيره، اما الفتيات المراهقات فقد اصبحن اكثر تعلقا بتلك المواقع لامكانية اللقاء الافتراضي غير المراقب والتعبير والتقليد لمنتجات الاعلام والوسائط المرئية التي يشاهدونها يومياً. تبدأ العلاقات بالاضافة على الفيسبوك وتنتهي برسالة نصية تتدرج بالقسوة وعمق التأثير النفسي حسب ثقافة وخلفية من يكتبها.
نحن بلا شك امام عالم جديد تختلف فيه القوانين والوقائع مع اننا نتمسك بنفس المعتقدات غير المتوائمة معها، فمن الاتصال بهاتف منزل الفتاة التي نحب والتحايل على الاخت حتى تطلبها لنحادثها بضعة ثوان معدودة قبل قطع الاتصال، الى تواصل افتراضي مفتوح على مصراعيه بالصوت والصورة وبأي وقت وداخل غرف النوم ومع افراد مختلفين يختبئون خلف شاشاتهم المضيئة!

اذا ما هو العمل؟ برأيي المتواضع لا يوجد الكثير مما يمكن عمله ولكن يجب علي ان اقول ما لا يجب عمله! فلا يكمن الحل بمحاولة الاقصاء والمنع والمراقبة الشديدة من قبل الاهل، لأن تحدي امكانات التكنولوجيا الحديثة لن يوفر الحلول بل يمكن ان يؤجل وقوع الضرر فقط، ولعل العودة الى اصول التربية بالتقرب من ابنائنا وتوعيتهم اليومية وسرد القصص حول مخاطر التواصل الافتراضي مع الاغراب وتفعيل مجسات استشعار الغبن والخطر والنوايا السيئة لديهم، خاصة عندما يتواصلون افتراضياً مع الآخرين، وتنمية الوازع الداخلي لديهم والذي  يمنعهم من الانحدار الى المهاترات والتسبب بأذى لهم او لمن يتواصلون معهم، وربما الاهم عدم لعب دور الشرطي او ضابط المخابرات المراقب لصفحات الابناء على مواقع الانترنت. ولتوضيح انطباع الابناء المراهقين عن دور الاهل سألت إبن صديق لي في جيل المراهقة، "لماذا  لا تقبل صداقة امك وابيك على الفيسبوك؟" فأجابني بطلاقة وكأنه أجاب عن السؤال آلاف المرات وفكر فيه ملياً من قبل: "ان اضفتهم بصير متل اللي بدخل على الحمام وبترك الباب مفتوح!"

م.عارف الحسيني
aref.husseini@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !

أما بالنسبة للإبداع .... فلا يمكن أن يبدع الخائفون

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟