موضة الريادة!


قررت ان اعود للقواعد واغوص في تجارب الآخرين حتى أتعامل مع الموضة، وأكاد اجزم ان كل من تبع موضة الريادة تجاهل أصولها وتبع أموال الممول وجمال المصطلح وبات يردده، ولكننا تجاهلنا أيضا كيف نبني مجتمعا رياديا حقيقيا وليس أوهام في الهواء.
خلِصت في نهاية بحثي الذي بدأته مشجعاً على الابداع العلمي قبل انطلاق موضة الريادة بسبعة اعوام انه وحسب معظم تجارب الاقتصاد في الدول التي صعدت عبر الريادة العلمية والصناعية والتكنولوجية ، على الريادي ان يمتلك الآتي:
ان يؤمن بفكرته حتى النخاع ويكرس لها كل وقته وطاقته، ان يفكر بها بمنظور عالمي منذ اليوم الأول وأن يكون جاهزا لحوار تكنولوجي مع اية جهة قريبة من مجال تخصصه ، أن يفتح عقله لإعادة هندسة منتجات من سبقه وان لا يخترع العجل ابدا، واتضح ان ثلاثة ارباع الرياديين الناجحين في العالم سبق وعملوا كموظفين في شركات ومصانع قبل بدء مشروعهم الريادي واكتسبوا التجربة والخبرة اللازمة في العمل ضمن اطار منظومة علمية منتجة، والأهم من ذلك انه في أغلب الاحيان كان الريادي او الريادية بين الواحد والثلاثين والاربعين من العمر ليمتلك النضوج وبعض الحكمة من جهة وامن الجهة الاخرى الجَلَد على المتابعة والطاقة الكافية للاستمرار حتى النجاح بإطلاق الفكرة الريادية على شكل مشروع يلج الاسواق ويدر الدخل.
اذا، نحن نسير في الدرب الخطأ!

فعلى مستوى الفرد في فلسطين، فإن أغلب من يصنف نفسه كريادي او تصنفه المؤسسات كذلك لم ينهي تعليمه الجامعي بعد، وهو لم يوّلد اي فكرة سابقة سوى فكرة مشروع التخرج في الهندسة او العلوم التطبيقية وهي على الاغلب ليست ملكا له فإما ان استاذ الجامعة طرحها او انه وجدها عبر تصفح الانترنت، اما بالنسبة للشغف والبحث والتطوير الدائم للفكرة الابداعية فإن ذلك بالعادة يكون في اطار الحصول على الشهادة الاكاديمية فقط وينتهي الشغف الملتهب بعدها، بالاضافة لافتقاره لأية خبرة عملية في سوق العمل وامتلاكه للمهارات الانشائية في كتابة الطلبات وبعض المصطلحات الاجنبية والكاريزما الجاذبة خلال العرض، وبالعادة ايضا يتملكه وهم الشهرة والثروة القادمة ولا يرى أمامه سوى ستيف جوبز مؤسس شركة آبل ومارك زوغربرج مخترع الفيسبوك. وهذا كله لا عيب ولا ضرر به ولكن مع غياب الابداع الحقيقي والتربية على الامتياز والريادة منذ الصغر وفي كل شيء، تصبح هذه الحالة حرجة في مواصلة الدرب ولا تفضي لنجاحات بل الى احباط وسوداوية واطلاق اشباه الجمل الرنانة "لا تقدير للابداع في فلسطين" " لا يوجد استثمار هنا " " لو كنت موجودا في الغرب لأصبحت اليوم من عليّة القوم" وينتهي المطاف بسيرة ذاتية فيها مشاركات في مبادرات الريادة وبالنهاية وظيفة عادية في احدى شركات المقاولات في دبي او الشارقة.
اما الجهات الراعية والداعمة فقد جاءت أغلب المبادرات والمشاريع الدعمة للريادة المحلية بعد زوال موضة مشاريع تعزيز الديمقراطية وضمان حقوق الانسان وتحقيق العدالة الاجتماعية والجندر وحقوق المرأة من أجندة الدول المانحة، ووصول اقتصادات الدول الغربية الى حد الاكتفاء بالصناعات التقليدية وضمان الامن الغذائي لشعوبها ونمو الصناعات الحربية والتجارة العالمية النافذة حول النفط والذهب والسلاح الى حدود الاستقرار حيث باتت المعادلة في المبادرة الى الحروب وشنّها وتنشيط الصراعات وادارتها معروفة ومحسوبة وتقليدية.
عليه، اصبحت هذه الدول وغيرها وبوساطات عديدة  توجه حكوماتها وصناديق دعمها للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال  نحو الاستثمار بالريادة الوهمية وذلك لأهداف متنوعة وفي بعض الاحيان متضاربة وغريبة. منها تعزيز السلام بين الشعبين والتبادل المعرفي وتكون الصداقات عبر الاحتضان والاحتواء والعمل المشترك.
الحكومة والنظام السياسي بدوره يؤمن بالنهج الريادي واثره على الاقتصاد وقد تشكل مجلس اعلى يتبع الرئاسة منذ عامين لهذا الهدف وهو يشمل اغلب الوزارات والمؤسسات الرسمية والاهلية، وقبل ايام تشكل مجلس آخر يتبع الحكومة وهو للهدف ذاته،  وربما تشكل كل وزارة مجلس ثالث وكل هيئة مجلس رابع تلبيةً للاحتياجات. ومع ذلك فإن كل ريادي يحتاج خدمة من مؤسسة حكومية مثل تسجيل شركة او شهادة خصم بالمصدر او غيرها فإنه يواجه البيروقراطية والتكاليف الباهظة نفسها التي يجدها كل رجل اعمال مخضرم وثري حين يطلق اعماله.
ومع ذلك لا يوجد نتائج! لم نبييع شركات ريادية ناشئة الى شركات عالمية كبرى بل ولم تشتري شركات محلية كبرى شركات ريادية محلية بل وظفت من ادعى الريادة وقضت على مبادرته، لم نخترق الاسواق المحلية او العالمية بمنتجات حسية او محوسبة، ربما يوجد هناك مبادرات ريادية يمكن حصر عددها على اصابع اليد الواحدة التي نجحت هنا او هناك ولكنها جاءت نتيجة تحمل اصحابها للمخاطر والريادة الفطرية التي يمتلكونا وليس بسبب منظومة الدعم التي يتغنى بها البعض.
 فهل هناك علم جديد للريادة نطوره نحن الشعب القابع تحت الاحتلال وسوف نعلمه للعالم قريبا؟
 في رأيي المتواضع لا يمكن أن ندعي الريادة قبل وصولنا الى نفس درجة الاستقرار والأمن والمعرفة التي وصل اليها من سبقنا الى الريادة وأحرز النتائج، علينا ان نعترف بالواقع ونتواضع وكفانا تسلقا على مصطلح رنان أخذ لغيرنا عشرات السنين من الاستثمار بالتعليم والتشريع حتى بلغوه، علينا ان نعود الى ابسط المشاريع الريادية وننمو معها حتى نبلغ التكنولوجيات الحديثة فنكون من السباقين لابتكارها.
علينا ان نصحو من الوهم ونستثمر بالريادة الزراعية حتى نأكل مما نزرع والريادة الصناعية حتى نلبس مما نصنع وان نسخر التكنولوجيا لخدمتنا وليس لبناء أبراج من الوهم سوف تنهار حال انتهاء الموضة واختراع اصحاب الاختراعات لمصطلح جديد يدور حوله التمويل القادم.
م. عارف الحسيني
aref.husseini@gmail.com


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟