العالم الصربي نيقولا تسلا - الظلم والكرامة

كنت مبهورا بتسلا على مدار السنوات الخمسة عشرة السابقة وعلى الاغلب سأبقى كذلك ما حييت، في العام 2003 كتبت نصاً مسرحيا بإسم "عكس التيار" يروي قصة حياة هذا العالم الصربي الفذ الذي ظلمه التاريخ بفعل هيمنة رأس المال والمصالح السياسية والاقتصادية وتحكّمها في المجتمع العلمي اثناء الثورة الصناعية والنهضة التكنولوجية التي تلتها. أنتجت المسرحية في القدس وتم عرضها في عدة مدن، وقد استعرض النص حياة العالم الفذ واختراعه للتيار الكهربائي المتناوب الذي نستخدمه اليوم واختراعاته الاصيلة في الاتصال اللاسلكي ومحركات التيار المباشر ومحطات توليد الكهرباء، كما وعرج على علاقة تسلا بالعالم توماس إديسون وكيف طور لأجله العديد من الاختراعات التي نسبها إديسون لاحقا لنفسه بسطوة المال والنفوذ. وبقي تسلا النموذج الملهم الذي لا تفارق صورته اي مكتب اعمل به واي مختبر او ورشة اقضي بهم وقتي ومغامراتي العلمية والهندسية،  تلك الصورة التي دهشت بوجودها الوفد الصربي الذي زار فلسطين مؤخرا بالتعاون مع جمعية خريجي يوغسلافيا السابقة وبرعاية سفارة دولة فلسطين في بلغراد.
في الآونة الأخيرة بدا وكأن القطاع العلمي بدأ يستيقظ ويقدر ما فعله نيقولا تسلا، ففي بلده الأم صربيا تغير اسم المطار الرئيسي في العاصمة بلغراد ليصبح على اسمه، وصكت عملة ورقية تحمل صورته، والترويج له والتفاخر بإنجازاته اصبح من اهتمامات الحكومة الصربية الجديدة وذلك بإنشاء التماثيل له ونصبها في مدن رئيسية في العالم مثل نيويورك.
بعد الاهتمام الصربي والمتابعة الفلسطينية الحثيثة من قبل مؤسسة النيزك لجلب تراث تسلا لفلسطين عبر سفارتنا هناك، زرنا مكتب الرئيس الصربي لنقابل مستشارة الرئيس بحضور القنصل الفلسطيني وممثل خريجي يوغسلافيا السابقة، كانت امرأة اربعينية هادئة ووقورة، بدأ الحديث العام عن العلاقات الفلسطينية الصربية والاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا وكونهما رافعة للاقتصاد الناشئ، وسرعان ما لمعت عيونها عندما بدء الحديث عن تسلا وعن اهتمام فلسطين بإحتضان تراثه في معرض يزور فلسطين وينطلق منها الى دول أخرى مثل سنغافورة وماليزيا، وبذلك نكون كفلسطينيين أول من يضيء تاريخ وتراث تسلا واختراعاته خارج صربيا والولايات المتحدة الامريكية.
ربما يكون لاعادة تقدير العالم نيقولا تسلا في بلاده الاصلية دلالات كبيرة على ما تحمله القيادة الصربية الجديدة من افكار وتوجهات، والتي كان لي فرصة التعرف اليها، بدأت المفاجئة عند مقابلة رئيس البرلمان الصربي الذي لا يتعدى عمره السادسة والثلاثين، ومن ثم بعض الوزراء والقادة الشباب، واكتملت الصورة بحضور مؤتمر اقليمي تقيمه صربيا لجمع الافكار ودراسة المبادرات في الدول المختلفة بما فيها فلسطين حول الترويج للعلوم والهندسة والتكنولوجيا، وآليات خلق ثقافة الابتكار العلمي وتحويل التميز في العلم من حالة هامشية وفردية، الى حالة عامة وهدف يسعى اليه الجيل المقبل ويتم تكريمه حسب اداءه فيه، وليس كما نكرم نحن  ونقدر طلبتنا على ما يحفظونه.
بعد الاطلاع عن كثب على الوضع الراهن في صربيا والتي دكها حلف الناتو اثناء الحرب الأهلية السابقة بأقسى انواع الاسلحة، فترك خلفه بلاد مدمرة عن بكرة ابيها، استطيع القول ان حالتنا في فلسطين من ناحية البنية التحتية للنظام التعليمي والتجهيزات القائمة هي افضل بكثير مما هو موجود لديهم اليوم، ولكن وللأسف الشديد لست واثقا ان هذا التفوق سوف يدوم طويلا، لقد اتخذ الصرب قراراً  لم نتخذه نحن بعد، غيروا نظامهم التعليمي ليستهدف المعرفة والتميز، حددوا هدفهم وهم يعملون يدا واحدة لتحقيقه، وضعوا التكنولوجيا الحديثة نصب أعينهم وادركوا ان الاقتصاد القادم لن يكون الا من خلالها، فهم مثلنا لا يمتلكون ثروات طبيعية كبرى وقد دمرت بلدهم في الحرب وهاجر منها اغلب الشباب المتعلم والمتميز، وقد ايقنوا اليوم انهم لا يملكون الا الادمغة الفتية للجيل القادم التي يجب تنمية قدراتها لتمتلك المعرفة والتقنية.
هذا التوجه والقرار الشجاع هو ما دفع المستثمرين لإنشاء مركز ابحاث لدراسة امكانية تأسيس مصنع عالمي في صربيا لانتاج وحدات التحكم المركزية لأجهزة الهواتف الذكية وايضا اشباه الموصلات التي تستخدم في صناعات كثيرة، وبعد الدراسة ووضع التصاميم والخطط سوف يبنى المصنع بأربعين مليار دولار ليشغل الآلاف من التقنيين والمهندسين والعلماء، ويطور بوجوده التعليم العالي ويوجهه الى التخصص والتميز في التكنولوجيا الدقيقة المتقدمة، وان استمر الصرب في هذا التوجه سوف نحمل قريبا هواتف ذكية لشركات عالمية يكتب على أدمغتها الداخلية "صنع في صربيا".
عندما توفي إديسون اطفئ العالم اجمع الكهرباء لمدة دقيقة واحدة حدادا على روحه وتقديرا لإنجازاه، ولكن عندما توفي تسلا والذي كان على مستوى الانجاز العلمي أهم من إديسون والفضل في إنارة العالم في الحقيقة له وليس لإديسون، اكتشفت جثته بعد ثلاثة ايام على وفاته في غرفة فندق فقير.

صربيا الجديدة، ومع توجهها وخطتها التي وضعتها قبل عامين سوف تعيد  لنيقولا تسلا حقه  بعد ستين سنة على وفاته، وان واصلوا المسيرة، لن يكون بعد عشرين عام عالم صربي آخر يعمل لدى إديسون جديد.

م.عارف الحسيني

aref.husseini@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !

أما بالنسبة للإبداع .... فلا يمكن أن يبدع الخائفون

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟