المستبد المستنير - الصين


لم ادرك يوما أهمية ما كتبه جمال الدين الافغاني حول حتمية وجود المستبد المستنير للنجاح في البناء والتقدم كما ادركه اليوم، ومع شعارات الديمقراطية التي نطلقها مرافقة في نفس الوقت مع العشائرية والفصائلية وتغليب المصلحة الخاصة على العامة وغياب الرؤية المتفق عليها من قبل اي مجموعة على اي قضية، يصبح وجود مستبد مستنير يحمل الهم الوطني، زاهداً في المنافع الشخصية ضرورة قصوى لمرحلة محدودة نرسي بعدها اسس ديمقراطية وعادات حسنة ينتهجها بعدنا الجيل القادم.

زرت مؤخراً امبراطورية الصين للمرة الاولى ، اعتليت الطائرة وفي ذهني صورة كاملة عن نظام استبدادي يقمع الحريات، يمنع مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت عالمية مثل الفيسبوك واليوتيوب وغيرها ليسيطر على العقول ويحجب تواصلها مع العالم، يحول الشعب لعبيد في دائرة الانتاج الاقتصادي الذي يستفيد من زبدتها مجموعة قليلة ممن يختبؤون خلف ستار الاشتراكية ليجمعوا رؤوس اموال لا تأكلها النيران. سألت صديق موثوق يزور الصين كل ستة اشهر ونحن ننتظر ختم الجوازات في مطار شنغهاي، كنا ننظر سويا عبر الواجهة الزجاجية الضخمة في المطار الحديث والنظيف الى كتل الدخان والتلوث البيئي التي لبدت سقف السماء ومنعت اشعة الشمس من وصول الارض، كيف ترى هذا الشعب المسكين؟ بماذا يفكر ذاك الشرطي الحزين وهو يختم للناس اوراقهم؟ رمقني بطرف عينه بإستغراب وقال، سوف اغفر لك جهلك! انتظر وسترى بعينك ولكن هناك ثلاثة امور لاحظتها في السنة الاخيرة، اغلب جيل الشباب يتحدث الانجليزية واصبح الصدق المطلق في التعامل ظاهرة عامة، ولم يعد هناك من يبصق بالشارع!

خلال عشرة ايام زرنا عشرات المصانع من مستوى ورشة عمل تحت منزل عائلة يعمل كل افرادها في تصنيع لوحات اعلانية مضيئة ويصدرون منتجاتهم الى اوروبا وامريكا، يعرضون بشغف وفخر ما ينتجون، وحتى مصانع ضخمة تنتج خطوط انتاج كاملة للتصنيع الغذائي والصناعي، كما وشاهدنا اقسام بحث وتطوير وانتاج لتكنولوجيات متقدمة في دقتها وجودتها، وكما نقول في عالم الاعمال "كله بسعره".

لم اشهد في الشوارع استعراض دائم لقوة الدولة، لم ارى دوريات شرطة تجوب الميادين ولا ثكنات عسكرية متنقلة مع كل موكب، ربما اعتمادهم على الاستخبارات والشرطة السرية في حفظ الامن، فليكن! هكذا هو الحال ايضا في معظم دولنا العربية ولكن مع فارق التقدم الدائم والانتاج، الف واربعمائة مليون مواطن في دولة واحدة، لا ادري ان دخلوا عالم الفيسبوك واليوتيوب ماذا سوف يحصل هناك، اكتشفت سريعا ان لدى الصينيين مواقع تواصل اجتماعي خاصة بهم، سألت احدهم ان كان يشعر بالخسارة لأنه لا يستطيع دخول الفيسبوك ، نهرني بنظرة إستهجان، وكأنني شتمته.

لم يكن هناك مدير او مديرة مصنع واحد يتجاوز او تتجاوز الاربعين من العمر، فاجئني الامر واتضح ان جيل التقاعد هو 57 عام، والعمل في وظيفة حكومية هو من افضل ما يمكن ان يحصل للفرد في الصين، ولكن التنافس كبير ويحتاج الى كفاءات وشهادات والنجاح في امتحانات صعبة تحتاج للوقت الكبير حتى تكتمل، الحكومة تدفع رواتب اكثر من القطاع الخاص والاهلي وتبحث عن النخبة دوما، لذا يبني الفرد قدراته ومؤهلاته في اعماله الحرة او الشركات الخاصة التي كانت قبل مدة ملك خالص للدولة وبدأت مسيرة خصخصتها حديثا، وبعدها يتجه الى العمل الحكومي او غيره.
لا يمكن لدولة ان تخصخص شركات حيوية وهامة قبل ان تمتلك القوة والقدرة اللازمة لمراقبتها وضمان عدم استئثارها بالشعب، ولا يمكنها عمل ذلك ان كانت تستقطب كوادر غير مؤهلة لتدير شؤونها بسبب ضعف القدرة المالية لدفع رواتب من يمتلك المعرفة والقدرة والوازع لعدم الانحدار الى متاهة الفساد.
تؤخذ القرارات المصيرية في الصين "المستبدة" اليوم على اعلى المستويات وبواسطة اهم المفكرين حسب خطة ومنهج مفهوم ومعروف ومتفق عليه، اما في بلدنا فتؤخذ القرارات التوافقية التي لا يتضرر منها احد، وان نجى اي قرار من الفصائلية، تجتاحه العشائرية والقبلية التي لمسنا عودتها تدريجيا في السنوات الاخيرة بعد ان غلبتها الثورة سابقا، وبعد ذلك يجب على القرار ان لا يمس بمصلحة احد والاهم ان لا يمس بالجيبة او المنصب، وهكذا وفي اغلب الاحيان يبقى الحال على ما هو عليه حتى اشعارا آخر لا يأتي ابدا.
كم نحتاج الى مستبد مستنير، لا يعتمد التوافق على اساس ارضاء المصالح كنهج عام، كم نحتاج تعلم الانتاج الذاتي وان يشعر كل فرد غير منتج بالنقص والحسرة ولا يتحول الى منظّر ومزايد وخبير في شؤون الذم والقدح، كم نحتاج ان يحول كل من يستطيع مرآب بيته الى ورشة تصنيع لمنتج نستهلكه محليا وان تسن القوانين التي تنفذ على ارض الواقع لحماية منتجه، بدل تحويل المكان نفسه لمستودعات تحوي أسوء البضائع الصينية التي يصنعونها ليتم تصديرها لبلداننا، ولبلدان تشاركنا الكارثة،  وليست لأسواقهم لأنهم يعرفون ان تجارنا يشترون الجودة الاسوء بالسعر الارخص ليحققوا الربح الاكبر، ولا يأبهون بأكثر من ذلك.


م.عارف الحسيني
aref.husseini@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرف الميم مع نقطة، لن يجعلك مهندساً !

أما بالنسبة للإبداع .... فلا يمكن أن يبدع الخائفون

هواتف "ذكية"... للأذكياء ؟ هواتف "غبية"... للأغبياء ؟